البرنامج القومي للاستقرار والتنمية (المئة يوم الأولى)
مقدمة: بعد اكتمال نجاح الثورة السودانية المجيدة ، ستواجه الحكومة القادمة صعوبات اقتصادية جمة، وتشوه اقتصادي بالغ التعقيد. وتتمثل أهم هذه التحديات في:
- عدم وجود غطاء معقول من العملات الصعبة يكفي قيمة الواردات. ومن المتوقع أن يكون حجم الاحتياطات النقدية الخارجية المتوفرة للحكومة، تضمن غطاء مالي للواردات لمدة أسبوعين فقط في أقصى تقدير.
- معدل عالي ومتسارع للتضخم على كامل السلع والخدمات. وقد تجاوز معدل التضخم حاجز 65% في العام الماضي.
- معدل نمو سالب وانكماش للاقتصاد للعام 2019 و2020. وقد تم تقدير معدل النمو في 2019 بحدود سالب 2%.
- عدم وجود فعالية للسياسات النقدية نتيجة لسياسة الحكومة في تجفيف السيولة خارج القطاع المصرفي بتحديد سقف لسحوبات المودعين في البنوك المختلفة.
وبصورة عامة، سترث الحكومة خزينة خاوية، وتضخم جامح، وسياسة نقدية غير فاعلة نسبياً، بالإضافة الى انكماش إنتاجية القطاعات الحيوية ودخول البلد في حلقة الركود الاقتصادي. ونتوقع أن المناخ الجيوسياسي في المنطقة لن يُمكن من مد يد العون للحكومة الوليدة بتوفير دعم لميزانية الدولة فوراً. كما لن يستطيع السودان الحصول على دعم من المؤسسات المالية الدولية والإقليمية والعربية (وقد بلغت مديونية السودان للبنوك العالمية والاقليمية المتعددة الاطراف حوالي 13% من اجمالي الدين الخارجي) على ضوء الوضع السيء لملف متأخرات واصل الديون الخارجية والتي بلغت في العام 2015 حوالي 50 بليون دولار أمريكي.
خصائص المرحلة الأولى لبلوغ الاستقرار الاقتصادي: ترسم المؤسسات التنموية الدولية ومنظمات الأمم المتحدة ملامح سياسات فنية اقتصادية واجتماعية لمرحلة ما بعد الثورات وعند نهاية الحروب والنزاعات. وتعتمد هذه السياسات بشكل رئيس على المفاهيم الاتية:
- يتوقع الجمهور الذي قام بالانتفاضة تغيير حقيقي وملموس وفوري عند نهاية النظام السابق. ولتحقيق استقرار واستتـباب أمني، يجب على كل الحكومات الانتقالية العمل على تحقيق تغيير كبير في الوضع الاقتصادي ومعايش الناس. وهذ بدوره يؤدي الى تهدئة الثائرين ويعطي الحكومة فسحة من الزمن لوضع برنامج اقتصادي متوسط المدى.
- العمل على وضع وتنفيذ سياسة إعلامية تساعد على عكس الوضع الاقتصادي السابق للثورة بكل وضوح وشفافية ووضعه في مقارنة حقيقية مع التغيير الاقتصادي الوليد. كما يجب أن تعمل السياسة الإعلامية على زيادة اللحمة بين جميع السودانيين والتركيز على المواضيع المتفق عليها من كل الاطياف والمناطق والأجناس.
- تحديد المؤسسات الحكومية المدنية التي لم تتضعضع من سنين التمكين وإقصاء المناوئين للنظام الحاكم، والاعتماد عليها في تنفيذ بعض الخدمات الحكومية الرئيسية.
- جمع القطاع الخاص السوداني وتنويره بالعقبات وأساليب الحلول المطروحة من قبل الحكومة والدور المناط للقطاع الخاص في مقبل الأيام.
- وضع اللبنات الأولى لبرنامج قومي للاستقرار والتنمية والتعمير يهدف الى تهيئة الوضع الاقتصادي والمدني والإداري للسودان. ويجب أن تكون السياسات المتبعة في المئة يوم الأولى هي لبنة الأساس وبداية تنفيذ البرنامج القومي المقترح.
محاور سياسات المئة يوم الأولى: تهدف الإجراءات الواجب تنفيذها في المئة يوم الاولى الى تحقيق استقرار وتوازن اقتصادي لكل مؤشرات الاقتصاد الكلي كالتضخم، عرض النقود والسياسة النقدية، معدل النمو المرحلي، معدل البطالة …. الخ. ويمكن تفصيل هذه الإجراءات في عشرة محاور أساسية كما يلي:
المحور الأول: وضع الية لجذب عوائد واستثمارات ومدخرات السودانيين العاملين بالخارج والمُقدر عددهم بحوالي 4 مليون سوداني. وتعتمد الألية في الأساس على تقديم التزام حكومي تقوم بموجبه يضمان كل الودائع بالعملة الصعبة. ومن ناحية تنفيذية، تقوم البنوك السودانية بفتح حسابات بالعملة الصعبة للمغتربين في مختلف الدول وبالتعاون مع سفارات السودان في الخارج. وعلى حسب التجارب السابقة لبعض الدول يمكن ارسال موظفين من البنوك بصورة دورية ومنتظمة لفتح الحسابات الجارية وتحصيل الايداعات مستخدمةً الحسابات الخاصة بسفارات السودان المختلفة. ويمكن للمودعين استخدام حساباتهم لجميع الأغراض استثمارية كانت أو لتحويل المصاريف العائلية المختلفة للأهل والأقارب في السودان. تجدر الإشارة بان الشقيقة أثيوبيا قامت بإجراءات مماثلة بعد الحرب مع إريتريا. ويعتبر هذا المحور عنصر أساسي داعم لسياسات الاستقرار الاقتصادي، وذلك لصعوبة الحصول على مصادر أخرى، في ظل التقاطعات الجيوسياسية الحالية للسودان ومتأخرات وديون السودان لدول نادي باريس والمؤسسات الدولية والإقليمية، للحصول على دعم لتوفير غطاء معقول من الاحتياطات النقدية الخارجية. وفي كل الأحوال يمكن للحكومة التواصل مع بعض الدول الشقيقة لدعم ميزانية الدولة. ويقدر حزب بناء السودان الاحتياج الأولي لدعم الميزانية في حدود 3 بليون دولار مما يحقق استقرار في سعر الصرف ودفع كبير للعملية الإنتاجية لتوفر العملات الصعبة لاستيراد مدخلات الإنتاج المختلفة.
المحور الثاني: يجب على الحكومة تحرير سعر صرف الجنيه السوداني نتيجة صعوبة الحصول على نتائج إيجابية من سياسات تحديد سعر الصرف لعدم وجود خدمة مدنية رقابية معتبرة لمتابعة إجراءات معاملات تحديد أسعار الصرف في القطاع البنكي والمصرفي، الأمر الذي سوف يؤدي الى خلق أسواق موازية للعملات. وسوف تؤدي سياسة الإبقاء على تعويم الجنيه في المدى القصير إلى خلق تنافسية عالية للمنتجات المحلية في الأسواق السلعية العالمية وتقليل حجم الطلب على الواردات لارتفاع أسعارها المقيمة بالعملات الصعبة مقارنةً بالعملة المحلية. بالإضافة الى ان سياسة التعويم سوف ترجح كفة اجراءات استقطاب عوائد العاملين بالخارج كما تم الاشارة اليه في المحور الاول.
المحور الثالث: كما تم الإشارة اليه، يجب وضع سياسة إعلامية تعكس الوضع الاقتصادي الراهن بكل شفافية للمواطنين وبلغة مبسطة ومفهومة، بغرض زيادة احتمال وصبر الناس في المدى القريب على الحكومة الوليدة التي تشق طريقها في وضع بالغ التعقيد. ويجب التركيز على خطاب إعلامي يوضح الاهداف المرجوة من السياسات الاقتصادية المقترحة لأقناع الجمهور ان القرارات المتبعة هي الطريق الأمثل في ظل الوضع الحالي.
المحور الرابع: وضع ألية فورية لما يسمى بالدخل الأساسي العالمي، والذي يتم بموجبه دفع قيمة نقدية معلومة لكل مواطن ويتم الدفع على أساس الرقم الوطني لكل مواطن سوداني. ويتم توفير الميزانية المتطلبة بأعاده توجيه الوفورات بالعملة المحلية الناتجة من تخفيض الأنفاق الحكومي الذي كان موجه في السابق للأمن والدفاع والنظام الفيدرالي. ويجب على الحكومة أن تُحسن من مقدراتها الإحصائية والمعرفية (المحور التاسع) لدراسة إمكانية استدامة هذه الألية بعد المئة يوم الأولى ومحاولة توجيه هذا الدعم للشرائح الأكثر فقراُ أو المناطق التي عانت من الحروب والنزاعات. ومن الأهمية بمكان أن تعكس السياسة الإعلامية المصاحبة لهذا المحور بشرح تفصيلي لحجم الوفورات وكيفية توزيعها.
المحور الخامس: تخصيص كل الأصول المملوكة لبعض المؤسسات الحكومية التي لا تساهم خدماتها فعلياً في العملية الإنتاجية، أو تلك التي يمكن أن يقوم القطاع الخاص بتقديم نفس الخدمة بصورة أكثر فعالية مما يقلل التكلفة النسبية لدافعي الضرائب. وتشمل هذه الأصول المباني والعقارات، السيارات، والمنشئات الصغيرة المملوكة للدولة، والتي تمثل أكبر التشوهات في الجسم الاقتصادي السوداني، مثل الصيدليات والمراكز التجارية، والبقالات التموينية.
المحور السادس: تفعيل سياسة نقدية ومالية منضبطة لكبح جناح التضخم عن طريق زيادة معدلات المرابحات البنكية ووقف الإغراق النقدي وتثبيت معدلات عرض النقود. وتهدف ايضاً هذه السياسة إلى إعادة ثقة المودعين في البنوك عن طريق ضمان كامل للودائع بالعملة المحلية أثناء الفترة الانتقالية. ويتطلب ذلك أيضاً إلغاء التحصيل العشوائي للرسوم والضرائب والخدمات وتوحيد إيصالات الدفع والتوريد إلى حساب أوحد في بنك السودان. ونتيجة لحساسية وتقاطعات هذه السياسة مع الإجراءات الاقتصادية الأخرى، يتطلب تنفيذ هذه السياسة موارد بشرية فنية سودانية معتبرة يتم استقطابها من مؤسسات التمويل العالمية والإقليمية وبالأخص السودانيين العاملين في صندوق النقد الدولي والبنك الأفريقي للتنمية، والبنك الإسلامي للتنمية، وصندوق النقد العربي، لوجود خبرات عملية وفنية مرتبطة بالاقتصاد النقدي بهذه المؤسسات.
المحور السابع: الإبقاء على دعم الخبز والوقود والسكر للشرائح الأكثر فقراُ (يمكن أن تعتمد الحكومة في الفترة الانتقالية على دعم سكان بعض المناطق والولايات التي تأثرت بالحروب والنزاعات وأيضاً تلك التي يعاني عدد مقدر من سكانها من الفقر المدقع) حتى يتعافى الاقتصاد وتستقر مؤشرات الاقتصاد الكلي من تضخم، ومعدل بطالة، وسعر الصرف، ومعدل إيجابي لنمو للناتج المحلي الإجمالي، وزيادة إنتاجية القطاعات الرئيسية.
المحور الثامن: البدء الفوري في محادثات إعفاء السودان من الديون الخارجية وفق لمبادرة أعفاء الدول الأكثر مديونية، والوصول الى نقطة القرار. ويجب توافر جهود الوزارات المعنية (الخارجية، والمالية، والتعاون الدولي) لتحقيق هذا الهدف الكبير. وتجدر الإشارة أن هذه المحادثات تعطلت في السابق لتأزم العلاقات الخارجية للنظام المتمثلة في ملفات الإرهاب وأمر القبض الصادر لرأس الدولة من المحكمة الجنائية الدولية. وسوف يفتح النجاح في هذا الملف أبواب التمويل المٌيسر من المؤسسات الدولية ومنظمات التمويل المختلفة بالإضافة الى دعم بعض الدول الغربية الناشطة في مساعدة الدول التي تعاني من الهشاشة (بريطانيا، النرويج، هولندا، السويد، الدنمارك، والاتحاد الأوروبي).
المحور التاسع: البدء فوراً في بناء القدرات الإحصائية للجهاز المركزي للإحصاء، وذلك لأهمية وجود المعلومات الإحصائية الدقيقة والتي يمكن الاعتماد عليها في تقدير بعض المؤشرات الديموغرافية، والاقتصادية، والاجتماعية، ومعلومات سوق العمل والاجور. وسوف تساهم هذه المؤشرات أو التقديرات لخلق إطار معرفي يُعتمد عليه في تقدير وبناء سياسات البرنامج القومي للاستقرار والتنمية.
المحور العاشر: إنشاء جهاز مركزي للمناقصات والعقود الحكومية لتُنظم وتضبط إجراءات المناقصات وإرساء العقود للمشتريات والأشغال الحكومية الاتحادية والولائية، أسوةً بتاريخ السودان التليد وتحقيقاً لأصول الحوكمة والشفافية والتخصيص الأمثل للموارد. ويعاني السودان حالياُ الكثير من العبث بالنسبة للمناقصات والمشتريات الحكومية، وإرساء العقود. فعدم وجود أرضية قانونية صلبة تُنظم المناقصات الحكومية بهدف الحصول على أفضل الأسعار والعقود وأجود المشتريات بأتباع أُسس نظرية وفنية لإجراءات طرح وتقييم وإرساء المناقصات، ساهم بشكل كبير في الخلل المذكور أنفاً. وحالياُ، هناك إدارة متواضعة في إحدى الوزارات مناط بها تصديق المناقصات والمشتريات الحكومية. إلا أن الممارسة الفعلية والتزام الجهات الحكومية بتوجيهات هذه الإدارة، صورية وغير محققة.
ديسمبر 2018