الدين والدولة

الخميس, 09 مايو 2019 16:26

تختلف الأحزاب البرامجية عن غيرها في أنها تطرح برامج معينة تسعى إلى تنفيذها ولا تدعي امتلاك إجابات لكل الأسئلة المطروحة، ولا تطرح نظرة شمولية يمكنها الإجابة على كل الأسئلة الفلسفية والنظرية، والنقطة الأخيرة هي أكثر خصوصا عندما يكون الحزب عابر للأيدولوجيات.

 

ينبغي هنا أن نشير إلى أهم فرق بين مفهوم البرامجية ومفهوم عبور الأيدولوجيا بوضوح، فالحزب البرامجي يمكن أن يستند على أيدولوجية معينة تسيّر أو توجه برامجه لكنه يسعى إلى تطبيق برامج معينة من وحي أيدولوجيته ولا يسعى بالضرورة إلى قيادة الدولة بكل أدواتها حسب أيدولوجيته. بينما المنظومات العابرة للأيدولوجيا تعي الاختلاف بين أطروحات الأيدولوجيات المختلفة وتتقبل هذا الاختلاف في إطار ضمني، غير اقصائي ولا تتبنى أي منها بشكل مؤسسي بل تبني برامجها حسب ضرورات الواقع، مستهدية بشكل رئيس بالحوار، داخليا ضمن مكوناتها وخارجيا في المجتمع ككل عبر إشراك أصحاب المصلحة والمختصين.

 

فلسفتنا في العمل السياسي ترتكز على إيجاد الحلول لمشاكل المواطن المعاشة كتوفير الكهرباء والماء والخدمات الصحية والتعليم كما ونوعا، والطرق وبقية البنى التحتية والأمان الغذائي كذلك، عبر أدوات العمل العابر للأيدولوجيات. نحن نؤمن بأن وجود نص دستوري يشير إلى مصادر التشريع أو وجود نص دستوري يشير إلى الشريعة لا يؤثر سلبا ولا إيجابا في توفير الرغيف ولا يؤثر في سعره ولا في توفر الخدمات الصحية ولا سهولة الوصول إليها كما أنه لا يساهم في زيادة إنتاجية البلاد من المحاصيل لتوفير الأمان الغذائي ولا يؤثر على قدرة الدولة على التصدير بغرض دعم اقتصادها. كما أن وجود هذا النص ضمن الدستور لم يمنع المسؤولين في نظام الإنقاذ البائد وقبله نظام مايو وكذلك في فترة الديمقراطية 1986-1989م، من الفساد ولم يقلل منه ونحن نعتقد أن غياب النص أيضا لن يؤثر سلبا ولا إيجابا على كل ذلك.

 

النخبة السياسية في السودان بيمينها ويسارها تعتقد أن أحد أهم أولوياتها هو قضية الشريعة أو علاقة الدين والدولة، بينما في السودان اليوم هناك 2.4 مليون طفل لم يذهبوا إلى أي مدرسة بتاتا، كما أن 41% من سكان السودان لا توجد لديهم مياه آمنة صحيا للشرب أو ليست لديهم مياه في أماكن سكنهم بتاتا، وكذلك هناك 61.5% من السكان لا يستعملون الكهرباء لعدم وصولها إليهم.

 

اعتقاد الاحزاب والقوى السياسية التقليدية في السودان أن جوهر الاختلاف السياسي مكمنه قضية الدين والدولة هو أحد الأسباب الرئيسية التي أدت لشكل الدولة الفاشل حاليا في السودان. فالحقيقة أن انقلاب مايو كان أحد أهم محركاته هو هذه القضية وفشل التحالفات المتعددة في الديمقراطية الثالثة (1986-1989م) أيضا كان على خلفية هذه القضية كما أن نظام الإنقاذ نفسه كان محركه هذه القضية عينها ليقوم بانقلابه المشؤوم، ولم تكن أي من قضايا التنمية والخدمات (التعليم، الصحة، الكهرباء، الماء...الخ) في قمة الأولويات السياسية لأي من الأحزاب أو القوى السياسية خلال هذه الفترات.

 

نحن نؤمن أن جوهر السياسة هو كيف تدار الدولة لصالح المواطن (توفير الخدمات أعلاه)، فالسياسي المنتخب هو موظف قام الشعب بتوظيفه ليحقق لهم الخدمات بشكل أساسي ويدير موارد البلاد بهذا الغرض وبالتالي فإن السياسي الذي يسعى إلى أن يكون منتخبا يجب أن يخاطب المواطنين بخططه المفصلة لتوفير هذه الخدمات لكل المواطنين وكيف سيمولها وكيف سيحافظ على استمراريتها وكيف سيسعى لتحسين جودتها في حال وجودها.

 

ما ذكر أعلاه لا يعني بأي شكل اعتقادنا بعدم أهمية التشريع، بل يعني أننا كحزب برامجي عابر للأيدولوجيات نسعى إلى توفير تحسين مستمر في أوضاع المواطن الاقتصادية والخدمية عبر كل السبل الديموقراطية والقانونية الممكنة والمتاحة، لأن واقع المجتمع هو ما يُشكل وعيه وبالتالي يحسّن مستقبله ويخلق واقعا جديدا نحو الأفضل. باختصار نحن نؤمن أن التنمية هي ما يخلق الوعي وأن الوعي الناتج قادر على خلق تنمية أفضل، تقوم هي بدورها بخلق وعي أفضل وهكذا، في تحسين مستمر على صعيدي التنمية والوعي، هذا التحسن المستمر في الوعي من الطبيعي أن ينتج عنه تطور مستمر في التشريعات المرتبطة بالمجتمع.

 

قد يتبادر إلى أذهان الكثيرين سؤال حول موقف الحزب العابر للأيدولوجيات إذا ما طرحت قضايا تشريعية أمام نوابه في البرلمان، فكيف سيصوت النواب ازاء هذه القضايا؟ هنا تكمن عبقرية طرحنا في حزب بناء السودان، ببساطة، إذا ما كانت القضايا التشريعية المطروحة لا تتقاطع مع أي من برامج الحزب المتفق عليها، فإن مؤسسات الحزب تمنح نوابها في البرلمان حق التصويت الحر (Free-Vote) وهو ما يعني أن لكل نائب الحق في التصويت فيما يراه يتناسب مع أفكاره، وهذه أوضح علامات التعبير عن التنوع الأيديولوجي داخل منظومة حزبنا العابر للأيديولوجيات.